تحت حكم المماليك، تكرر ظهور الوباء العام المسمى بالطاعون في
مصر أكثر من مرة. أشرسها سنة 833 هجرية، في ولاية السلطان الأشرف برسباي.
الوباء قضى على أعداد هائلة من المصريين. فيها فقد الحافظ ابن حجر
العسقلاني (أشهر شراح البخاري) ثلاثا من بناته، وكتب رسالة “بذل الماعون في
فضل الطاعون”، والتي جمع فيها من المستقر في التراث الإسلامي الروائي
والفقهي حول الوباء العام ما قد يصدم البعض.
مرويات الطاعون والعدوى
من أهم ما جاء في رسالة الحافظ ابن حجر العسقلاني، مدعومًا بالمرويات والأحاديث وأقوال الفقهاء:
1 – اعتبار الطاعون رحمة للمسلمين: واستقصى فيها أحاديث،
أشهرها ما ورد فيها البخاري عن عائشة أنها سألت رسول الله عن الطاعون،
فقال: “كان عذابًا يبعثه الله على من يشاء، فجعله الله رحمة للمؤمنين“.
2 – الميت بالطاعون بمنزلة الشهيد: كما في البخاري: في تتمة رواية عائشة السابقة: “ما
من عبد يكون في بلد يكون فيه، ويمكث فيه لا يخرج من البلد، صابرًا
محتسبًا، يعلم أنه لا يصيبه إلا ما كتب الله له، إلا كان له مثل أجر شهيد“. وفي البخاري أيضًا: “الطاعون شهادة للمسلمين“.
3- تحريم الفرار من الطاعون على أهل البلدة المصابة به، أو الدخول إليها، واعتباره قدرًا إلهيًا، كما في حديث البخاري: “إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منها“.
4 – إنكار سببية العدوى في نشر الأمراض، وفتح باب زيارة المريض المصاب بالوباء، بحديث البخاري: “لا عدوى ولا هامة ولا صفر” الذي استنبط من خلاله بأن الأمراض ليست معدية بذاتها، وإنما تنتقل بقدر الله.
غرابة النصوص ومخالفتها لغرائز الإنسان الطبيعية دفعت عددًا
من المتأخرين من شراح الأحاديث وفقهاء المذاهب إلى التفريق بين الوباء
والطاعون، ليعتبروا الوباء عامًا والطاعون خاصًا، عكس ما ذهب إليه
المتقدمون باعتبار الوباء والطاعون مترادفين.
الأسباب التي دعت للتفريق بين الوباء العام والطاعون كانت
الأحاديث الصحيحة في أن “المدينة لا يدخلها طاعون”. وقد تعرضت المدينة
للأوبئة في عدة وقائع مثبتة تاريخيًا.
هذه الغرابة تدفعنا لإعادة البحث في هذه المسألة في سياقاتها التاريخية والسياسة، بما يساعدنا لكشف جوانب أخرى.
طاعون عمواس
اتفق جمهور المؤرخين على أن أول طاعون حدث في الإسلام كان
طاعون عمواس، الذي حدث بالشام في خلافة عمر بن الخطاب ومات فيه عدد كبير من
الصحابة، أشهرهم أبو عبيدة بن الجراح، ومعاذ بن جبل، ويزيد بن أبي سفيان.
هذا الطاعون كان له بالغ الأثر في تغيير مسار التاريخ
الإسلامي؛ فبموت والي دمشق يزيد بن أبي سفيان انتقلت الولاية إلى شقيقه
الأصغر الداهية السياسي معاوية.
تسهب كتب التاريخ الإسلامي في وصف الطاعون وما حدث فيه وموقف
الخليفة عمر بن الخطاب منه، بعدما كان قد عزم التوجه إلى الشام فبلغه
انتشار الوباء.
هنا تكثر الروايات. وملخصها الآتي:
1 – بعدما بلغ عمر انتشار الوباء في الشام تردد في دخولها،
فاجتمع بالجند وكبار الصحابة. وكان الخلاف شديدًا بين من يرى إكمال المسير
ومن يرى العودة.
2 – كان رأي عمر العودة، لكنه واجه اعتراضات باطنها اتهامه
بالخوف، كما يظهر في مقولة: “أتفر من قدر الله؟!” فكان جوابه: “أفر من قدر
الله إلى قدر الله”.
3 – حسم الخلاف عبد الرحمن بن عوف حين قال إنه سمع الرسول
يقول في شأن الطاعون: “إذا سمعتم به بأرض فلا تقدموا عليه، وإذا وقع بأرض
وأنتم بها فلا تخرجوا فرارًا منها”. فاستقر القرار على عودة عمر مع أصحابه
مع بقاء الجند في الشام بقيادة أبو عبيدة ومنعهم من الخروج مصداقًا للحديث.
4 – تذكر بعض المصادر أن عمر بعدما عاد أرسل لأبي عبيدة يعرض
عليه العودة للمدينة، لكنه أصر على البقاء مع الجند، حتى مات بالطاعون
بعدها بأيام.
قراءة سياسية في موقف عمر
الرأي الذي استقر في طاعون عمواس بمنع خروج الجند وبقاءهم في
الوباء قد يكون نقطة الانطلاق لطوفان الأحاديث في فضل الطاعون وتحريم
الفرار منه، واعتبار الميت به بمنزلة الشهيد.
لو قرأنا القرار جيدًا سنجده يحمل جانبًا سياسيًا وعسكريًا
مهمًا وهو: تثبت الجنود المسلمين في أماكنهم، ومنعهم من الهروب؛ للحفاظ على
سيطرة المسلمين على الشام بأي ثمن، ومهما كانت الكلفة، للأسباب التالية:
1 – خاض المسلمون معارك كثيرة وصعبة للسيطرة على الشام والقدس
(الجائزة الكبرى) منذ عهد النبي محمد، بدءًا بغزوة مؤتة، وصولًا إلى
اليرموك وفتح القدس. ومن غير المتصور تركها بسهولة تحت وطأة الفزع من
الطاعون.
2 – كانت الشام تمثل أهم جبهة للدولة الإسلامية في توسعها؛
فهي بوابة أفريقيا وأوروبا، وهي الأكثر تهديدًا، بعد اقتناصها من قبضة
الروم البيزنطيين بينما بقيت دولة الروم قائمة تحاول العودة، واستقرت جبهة
العراق وفارس بسقوط دولة الفرس.
3 – تحتل القدس أهمية دينية كبرى لدى عمر بن الخطاب الذي
دخلها فاتحَا بمراسم دينية تشبه دخول المسيح القدس في أحد السعف، راكبًا
على حمار، حيث كان عمر يستمد منها شرعيته الدينية كمخلص وفاتح للقدس بشهادة
اليهود.
بين الجهاد والطاعون
ما يدعم هذه القراءة التلازم بين خصائص الجهاد وخصائص الطاعون. كالتالي:
1 – اعتبار المطعون شهيدًا.
2- استخدام توصيف الفرار في وصف من يترك بلدًا انتشر فيها
الطاعون. وهو نفسه وصف القرآن للمتخلف عن الجهاد، وهو ما يؤكده حديث صريح
ورد في مسند أحمد نصه: “الفار من الطاعون كالفار من الزحف”.
3 – التلازم بين الموت قتلًا بالسيف والموت بالطاعون، حتى جاء
في وصفه أنه يسمى بالطاعون طعنًا من الجن، وهو ما يؤكده حديث: “فناء أمتي
بالطعن والطاعون”.
4- نفي السببية في العدوى لمنع الحذر المثبط عن مواصلة العمل،
واعتبار الموت قدرًا لازمًا، كما في رواية عمر: “نفر من قدر الله إلى قدر
الله”. وفي القرآن تحذير الفارين من الجهاد: ” قل لن ينفعكم الفرار إن
فررتم من الموت أو القتل”.
وهذه الأحاديث إما أن تكون وليدة طاعون عمواس، أو بدأت قبلها
في عهد النبي محمد؛ حيث آيات سورة التوبة في التحذير من التخلف عن الجهاد
بحجج وأعذار. وللمصادفة فإنها جاءت كذلك في التجهيز لغزو الشام وفتح القدس.
الخلاصة
1- الأحاديث في وصف الطاعون من التبشير به ومنع الفرار منه
ونفي سببية العدوى تحمل بعدًا سياسيًا عسكريًا ارتبط بالفتوحات الإسلامية،
الهدف منها تثبت الجنود للحفاظ على الأرض التي سيطر عليها المسلمون؛
باعتبار أن شيوع الوباء والعدوى كفيل ببث الذعر بين الجنود ودفعهم للفرار.
2- شيوع هذه الأحاديث بدأ في زمن عمر بن الخطاب في طاعون عمواس، بعدما سيطر المسلمون على الشام بأعوام قليلة.