استدعاء العسكر لحسم الصراع السياسي وربما الفكري ليس جديدا على طينة من اللبراليين واليساريين الفاشلين، فقد ظهر في التجربة الدموية الجزائرية، حيث أفتى "الديمقراطيون" حينها بوجوب (وليس جواز فقط) نزول الدبابات (وليس البنادق وحسب) لحماية "الديمقراطية؟
حماية الديمقراطية من الصناديق، بعدما فقد متطرفو العلمانية ثقتهم بالمصوتين والناخبين وطعنوا في القدرات العقلية للشعب وأهليته للاختيار. وهو تقريبا ما نسمع صداه اليوم في مصر، مع بعض الفوارق.
ثمة أخطاء مهلكة ارتكبها الثوار بعد الإطاحة برأس الفساد في النظام السابق حسني مبارك، مردها إلى العجلة والسذاجة السياسية وقلة النضج وأمور أخرى، وسلموا زمام الأمام الأمور إلى الأحزاب والسياسيين قبل الاتفاق على جدول أو برنامج عمل توافقي لإدارة المرحلة الانتقالية.. ليسلمها الساسة من بعد في خطيئة كبرى أساءت كثيرا للتجربة المصرية إلى العسكر: حماة مبارك بالأمس وحتى بعد سجنه..
تعايشت التجربة الدموية في الجزائر على الأقل في سنواتها الأكثر تحطيما وتخريبا ووحشية وقمعا (92ـ 1996م) من مستندات موثوق منها، والتقسيمات التي ظهرت على الساحة المصرية اليوم كان لها الحضور البارز والمؤثر في الجزائر بعد الانقلاب العسكري في العام 1992، وبلغ الاستقطاب حدا مريعا ومنذرا بتصدع وشرخ عميقين، وووصل الانقسام حتى داخل الإسلاميين (بين الإخوان من جهة والسلفيين المسيسين من جهة أخرى) إلى الضرب وبعض السيوف والخناجر داخل المساجد (وهو ما سلمت منه التجربة المصرية حتى الان).
ومن جانب آخر، احتد الصراع بين إسلاميي جبهة الإنقاذ ومن ناصرهم وبين المعسكر العلماني المتطرف الذي كان يحضر الانقلاب على الديمقراطية، لكن، ومع هذا، لم يصل الوضع إلى حالة الانفجار والصدام الدموي، إلى أن ارتكب المعسكر العلماني المتطرف (والمشكل من بعض كبار قادة العسكر والمخابرات والكتاب والجمعيات النافذة المؤثرة تلتقي في السر وتخطط لعملية انقلابية على الخيار "الديمقراطي" حتى وإن كلفها ذلك قتل 3 ملايين، وهم مجموع من صوت للجبهة الإسلامية في الإنقاذ في الانتخابات البرلمانية في العام 1991، كما صرح بذلك أحد قادة الجيش النافذين حينها) الخطيئة الكبرى في تاريخه السياسي وتاريخ التعددية الوليدة في الجزائر.
أخطاء بعض الإسلاميين واستعدادهم النفسي للاستدراج وتحريض المتطرفين من المعسكر المعادي لهم وإعلان فرنسا الاستنفار العام في مواجهة صعود الإسلاميين كل هذا وغيره استُغل لتعجيل تنفيذ خطة الضربة الدموية للديمقراطية الوليدة في الجزائرية.
ولم يستغرق الوقت بين نزول العسكر بالدبابات وشلال الدماء أكثر من أيام معدودات، حتى رئيس الجمهورية آنذاك (الشاذلي بن جديد) رفض خيار الانقلاب فأُقيل من منصبه وعُزل عن الحياة السياسية في إقامة جبرية بعيدا عن الأنظار..
ومن يومها والعسكر (وتحديدا قيادة الأركان والمخابرات) متحكمون في القرار السياسي والاقتصادي وحتى الثقافي بشكل غير مسبوق في تاريخ الجزائر..
فأن يتحجج بعض الكتاب والسياسيين في مصر بأخطاء مرسي وجماعته ومن هم في الحكم عموما لتسويغ الانقلاب على الخيار الديمقراطي، فهذا إفلاس سياسي ونذير شر مستطير، ليس ثمة ما يوجب تدخل العسكر لحسم الصراع السياسي والفكري حتى وإن بلغ الاستقطاب حده الأقصى.
وهناك من يدفع بالأوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية في مصر الثورة اليوم ليتدخل العسكر ويحسم الموقف بالرصاص والدبابات، وهذا تكرار لخطيئة الجزائر المدمرة، وما أتابعه اليوم في مصر اتذكر كثيرا من مشاهده المتقاربة قبل حوالي عشرين سنة في الجزائر، ومرد الاستقطاب السياسي الفظيع واحد في كلا البلدين تقريبا: طول عهد الاستبداد وحداثة التجربة وقلة النضج وغلبة السذاجة السياسة، ثم الأحقاد وتصفية الحسابات، حيث إن الثورات في بداياتها تخرج أسوأ ما فيها، لكن كل هذا قابل للاحتواء وتكلفته أقل بكثير من تكلفة تدخل العسكر والانقلاب على ما أفرزته الصناديق.
ويبدو أن المخاوف من استئثار الإسلاميين بالحكم والصراع الحاد حول هوية الدولة وقلة ثقة اللبراليين واليساريين بالصندوق دفع جبهة الإنقاذ الوطني لتبني خط إقصائي استعلائي وتحريض الجيش بشكل أو بآخر لحسم العملية السياسية، بعد أن أدركوا أنهم لن يحسموها بالصندوق، ولو أنهم صبروا أربع سنوات وعززوا مواقعهم واعتمدوا خطابا معارضا عاقلا واحترموا العملية الديمقراطية حتى مع رفضهم للتصالح مع الحكم واستثمروا أخطاء النظام وأسسوا لرؤية وبرنامج عمل بديل وشكلوا قوة ضغط على الحكم لكان حظهم أوفر من الآن..
لا يعنينا الكثير الآن النبش في متاهات تفاصيل الحياة السياسية في مصر الثورة، لأن البناء الهش الذي تم تشييده حتى الآن غلبت عليه العجلة والاندفاع الأهوج واستعجال قطف ثمرة التنافس الانتخابي والصراع السياسي قبل أوانه، فكان ما نراه اليوم، والضرر يزال ولكن لا يزال بمثله.
ويمكن الاستدراك على ما تم بناؤه إلى الآن وسد الثغرات والاتفاق على الحد الأدنى من التعايش السياسي والفكري، والتجربة لن تتوقف عند هذا الحد ستنضج تدريجيا بالتدافع السلمي، والشعب لا السياسيون هو من سيحسم الموقف في أي استحقاق انتخابي قادم، فلا أقل من أن تشتغل الأطراف المتصارعة على خدمة رجل الشارع والتخفيف من معاناته وأعباء الحياة، وما يتحقق على أرض الواقع من خدمات وتحسين معيشة الناس هو الفيصل في مثل هذه النزاعات..
ثم إلى الآن لا يمكن الجزم بأن طرفا معينا مؤهلا لقيادة البلاد، الكل يتخبط والبناء هش من أساسه، فالحكم اليوم وبال على صاحبه، ومن هم في المعارضة أقدر على تسديد الضربات (بلغة الصراع) الموجعة، أما وأن الأحقاد قد أعمت قادة جبهة الإنقاذ والعداء للأشخاص والأفكار بلغ حدا جنونيا، فسيبعدها هذا عن الحسم السياسي بشكل ديمقراطي مسافات طويلة، وهو ما جعلها "ألعوبة" في يد بقايا النظام القديم يتصدر من خلالها المشهد ويفرض منطقه.
وحديثي عن جبهة الإنقاذ دون الإغفال عن المحرك الأساسي لنيران بعض منتسبيهم وجيوبهم الحارقة وهم فلول النظام السابق، فهم الطرف الأكثر قدرة من غيره على التآمر وإدارة التحضير لعملية الانقلاب لاستعادة النظام القديم بعض ما خسره والثأر من مكاسب الثورة الشعبية..