Saturday, June 29, 2013

نقطة ومن اول السطر. هل ثمة حل؟

ثمة شيء لا يمكنك إلا أن توافق القوى المعارضة للرئيس المصري، د. محمد مرسي، عليه: أن عملية الثورة والتغيير في مصر لم تزل مستمرة، ولم تصل إلى نهايتها بعد. ثمة من ينظر إلى الأمر من زاوية فلسفية أبعد ويقول إن الثورة لا يجب أن تنتهي، أصلاً، وأن تحقيق الحرية مرتبط باستمرارية الثورة. ولكن هذا ليس المقصود هنا.
المقصود أن نتائج حركة الثورة العربية، التي انطلقت من تونس في ديسمبر 2010، وعصفت بعد ذلك بمصر وليبيا واليمن وسورية، وبصورة أقل وتيرة بالمغرب والأردن والبحرين، لم تتبلور بصورة حاسمة بعد، وأن البلدان العربية لم تصل حتى الآن إلى استقرار ما بعد الثورة، ليس على الصعيد الداخلي وحسب، سياسياً واجتماعياً واقتصادياً، ولكن أيضاً على صعيد صورة الإقليم، علاقات القوة فيه، ووجهته.
 ما يسعى معارضو مرسي إلى تأسيسه من مقولة استمرار الثورة هو، ببساطة، منح أنفسهم الحق في إطاحة الرئيس المنتخب، أول حاكم منتخب في تاريخ مصر كله.
ولأن "الحق" هو مسألة المسائل في تاريخ الدول والأمم وممارسة السياسة، يسوغ المعارضون هدف إطاحة الرئيس بأن إدارته لم تحقق أهداف الثورة، وأنه لا يملك برنامجاً لتحقيق هذه الأهداف، وأن أوضاع البلاد أصبحت أكثر سوءاً مما كانت عليه في عهد النظام الذي أطاحته الثورة.
هذه اتهامات كبيرة، بالفعل، وتستدعي، ربما، قراءة سريعة، قبل الذهاب إلى مقولة استمرارية الثورة.
بدايه انا لست منحازا لهذا الفصيل او تلك فكلاهما ومع الاسف لا يسعى إلا لمصالحه الحزبيه والشخصية ولكن .. تسلم مرسي مصر دولة راكعة على ركبتيها، ليس في ماليتها العامة وحسب، ولكن أيضاً في مؤسسات تعليمها، قضائها، أمنها، صحتها، تموينها، طرقها، ومواصلاتها؛ ودولة مغيبة كلياً في إقليمها.
وكما معظم المرشحين الآخرين للرئاسة، لم يكن مرسي يعرف على وجه اليقين حجم الخراب الذي وصلت إليه الدولة المصرية في العقد الأخير من حكم مبارك، الذي ازداد تفاقماً أثناء حكم المجلس العسكري. خلال ما يقارب الشهرين من رئاسته، التي توشك أن تكمل عامها الأول، لم يكن الرئيس المنتخب رئيساً فعلياً.
وليس حتى إطاحة المجلس العسكري السابق أن بدأ مرسي في التعرف على حقيقة أوضاع البلاد وحاجاتها. مرسي هو المرشح الوحيد الذي خاض انتخابات الرئاسة بتصور متماسك ومعقول ومحسوب للنهوض بمصر من كبوتها.
كل المرشحين الآخرين نشروا برامج شبه خيالية، أو خاضوا معركة الرئاسة بشعارات ووعود لم يعرفوا مآلاتها. وليس هذا انتقاصاً من نوايا أحدهم، فتجربة خوض انتخابات رئاسية تعددية حرة، ووضع برامج ترتكز إلى تصور شفاف لشؤون الدولة والحكم، كلها تطورات جديدة كلية على مصر.
المهم، ما وجده مرسي أمامه من تحديات، دفعه إلى الموازنة بين الاهتمام بمشاريع البناء والنهوض، المتوسطة وبعيدة المدى، ومعالجة المشاكل الطارئة، مثل أزمات السولار والغاز ورغيف الخبز، الأمن، العجز المتفاقم للميزانية، والتدهور المستمر في المالية العامة.
في كلا المجالين، مشاريع البناء ذات المردود البعيد، والتحديات الطارئة، حقق مرسي، خلال عشرة شهور فقط، إنجازات ملموسة، يشعر بها ملايين المصريين. ولكن، ثمة مجالات لم يستطع مرسي تحقيق تقدم كبير فيها.
لم يستطع الرئيس المصري تقديم دستور توافقي للشعب؛ لم يستطع حتى الآن إعادة بناء مؤسسة القضاء، بحيث يطمئن المصريون أنهم يعيشون في ظل نظام عدالة يليق بهم وثورتهم؛ لم يستطع سوى تحقيق إنجازات جزئية في مجال تطهير وزارة الداخلية، مترامية الأطراف وذات التماس اليومي مع الشعب. السؤال هو ما إن كان الإخفاق، أو البطء، في هذه المجالات ومثيلاتها مسؤولية الرئيس الجديد وحسب. الإجابة بالتأكيد لا؛ والسبب خلف هذه الـ (لا) يتعلق بجوهر أزمة مصر، ودول الثورات العربية الأخرى: افتقاد الإجماع، والعجز عن بناء هذا الإجماع بوسائل سلمية وعقلانية حتى الآن.
ما يقوله ناطقون باسم معارضي مرسي أن تحركهم الراهن هو تعبير عن الانفضاض المتزايد عن الرئيس من أولئك الذين أعطوا أصواتهم لهم؛ ويستبطن هذا الادعاء أن معارضي اليوم كانوا بين من دعم مرسي في انتخابات الرئاسة. وهذا ليس صحيحاً.
الصحيح، أن أغلب الشخصيات السياسية المعارضة للرئيس اليوم، وتلك التي تحاول في وسائل الإعلام الخاصة حشد الشارع ضده، لم تعط صوتها للمرشح محمد مرسي، وبعضها عمل بنشاط لدعم منافسه، أحمد شفيق، مرشح دوائر النظام السابق.
قلة بين هؤلاء فقط، وقلة قليلة بالفعل، جرت أقدامها بتثاقل في اللحظات الأخيرة من الحملة الانتخابية وقررت، في محاولة للاصطفاف في الجانب الصحيح من التاريخ، التصويت لمرسي.
بكلمة أخرى، لا شيء كثيراً قد تغير في الساحة السياسية المصرية منذ الانتخابات الرئاسية. الذين فوجئوا بقيام الإخوان المسلمين بتقديم مرشح للرئاسة في الأسابيع الأخيرة من الحملة الأخيرة، وأعلنوا استهجانهم ومعارضتهم الصريحة لتلك الخطوة، استمروا في معارضة المرشح الإخواني.
بعد ذلك؛ وما إن فاز مرسي بالرئاسة، حتى تصاعدت حدة معارضته، وتكررت المطالب بإطاحته وإعلان فشله وعدم صلاحيته، منذ الشهور الأولى في رئاسته، التي لم تزل في عامها الأول.
التفاوت في لغة العداء للرئيس، والجماعة التي انحدر منها، لم يكن سببه الانتقال من موقع التأييد إلى موقع المعارضة، بل إن خصوم مرسي لم يأخذوه في البداية مأخذ الجد، سيما عندما كان المجلس العسكري السابق لم يزل قابضاً على زمام الأمور. وما إن أكد مرسي سلطته، حتى فتحت أبواب جهنم في وجهه، وبغض النظر عن سلامة سياساته أو عطبها.
جاء مرسي إلى مقعد الرئاسة من صفوف جماعة الإخوان المسلمين، أولى جماعات التيار الإسلامي السياسي في القرن العشرين.
وكما أشرت في مناسبات عديدة من قبل، لم يكن بروز التيار الإسلامي السياسي تعبيراً عن مخطط أو مؤامرة، ولا حتى بالمعنى البلشفي الروسي، بل انعكاساً لعدد من المتغيرات الكبرى التي مرت بها المجتمعات العربية والإسلامية في القرن التاسع عشر ومطلع العشرين: حركة تحديث عاصفة؛ تشظي اللحمة الاجتماعية التقليدية، وصعود القوى الاجتماعية الحديثة؛ الاستعمار الغربي؛ بروز نظام الدولة الحديثة، المركزية، والمهيمنة على المجال العام ومساحة متسعة من الخاص، على السواء؛ وبالتالي انهيار الإجماع التقليدي.
بكلمة أخرى، كان التيار الإسلامي السياسي تعبيراً عن الانقسام في القوى الحديثة نفسها، واجتماع فئات ملموسة من هذه القوى على هدف الدفاع عن قيم الإسلام وتصوره للحياة، الإسلام الذي بدا أن عواصف العصر الحديث تدفع به إلى الهامش.
ولدت جماعة الإخوان المسلمين أصلاً في مصر، الدولة العربية الأكبر، والتي، حتى في لحظات ضعفها، مارست أكبر الأثر على اتجاهات السياسة والثقافة في محيطها العربي.
وكان طبيعياً أن تشهد مصر بداية الصراع حول التيار الإسلامي السياسي وموقعه ودوره في المجتمع العربي الحديث، بل وأشد حلقات هذا الصراع وأكثرها حدة.
وليس ثمة شك في أن بعداً هاماً لهذا الصراع تعلق بالفعل بالحكم والسلطة؛ كيف لا وقد أصبح من المستحيل في ظل الدولة الحديثة إحداث تغيير ما من دون القبض على مقاليد الحكم. ولكن البعد الأهم والأعمق والمديد، تعلق بالانقسام الاجتماعي السياسي المتفاقم وفقدان الإجماع.
وفي سياق هذا الصراع، المستمر في مصر منذ ثلاثينات القرن الماضي، عملت الدولة المصرية، الملكية والجمهورية على السواء، ليس على تهميش الإسلاميين وحسب، بل وبناء نخبة مصرية: رجال دين تقليديين، جيش، بيروقراطية، إعلام، ثقافة، تعليم وتعليم عال، بل وحتى عموم الشعب، إن استطاعت، معادية لفكرة وجود التيار الإسلامي، لاحتمال مشاركة التيار الإسلامي في الحكم. وليس العداء وحسب، بل والخوف والخشية، أيضاً.
هذا، بالطبع، لا ينفي أن بعض قوى التيار الإسلامي السياسي ساعدت، أحياناً، على تعزيز هذا الخوف، وتقديم المسوغات له.
في النهاية، ولأسباب تتعلق بفشل وإخفاق دولة ما بعد الاستقلال الوطني، فتحت حركة الثورة العربية الأبواب لوصول الإسلاميين للحكم، منفردين أو ضمن تحالفات حزبية، بما في ذلك تولي محمد مرسي، ابن جماعة الإخوان المسلمين، رئاسة الجمهورية المصرية.
ولكن الثورات العربية، سيما في دول مثل تونس ومصر واليمن، كانت في الحقيقة ثورات "مهذبة" إلى حد كبير، لم تستهدف سوى نظام الحكم القائم، لا أكثر من ذلك. لم تعالج الثورات، وما كان لها، انقسام القرن العشرين البالغ وانهيار الإجماع.
وهذا ما يجعل عملية الحكم في تونس ومصر شأناً بالغ الصعوبة والتوتر حتى الآن. ربما كان يجب على الجمعية التأسيسية المصرية التمهل قليلاً وبذل جهد أكبر للتوصل إلى دستور توافقي؛ وربما كان على مرسي ألا يصدر إعلان 21 نوفمبر 2012 الدستوري؛ وربما كان على الرئيس أن يعطي رئاسة حكومته الانتقالية لشخصية معارضة، حتى وإن كان مقتنعاً بفقدان هذه الشخصيات للكفاءة.
ولكن هذه كلها تفاصيل. مصر القرن العشرين ومطلع الحادي والعشرين ليست قادرة بعد على إنتاج دستور توافقي، ولا على التوافق على إعادة بناء المؤسسة العدلية والقضائية، ولا على تطهير عميق لأجهزة الأمن والداخلية، ولا حتى على جملة الإجراءات الاقتصادية والمالية الضرورية للخروج بالبلاد من عنق الزجاجة المالي الاقتصادي.
والمسألة ليست حجم الشارع الذي يقف مع الرئيس وذلك الذي يمكن لمعارضيه حشده، لأن فقدان الإجماع حالة عميقة الجذور، تتجاوز أرقام الحشود في هذا الجانب أو ذاك.
المعارضون لمرسي يريدون إطاحته وإعادة الإخوان إلى الهامش السياسي، حتى لو كانت الأغلبية تقف مع الرئيس، وحتى لو أن الرئيس لم يرتكب خطأ واحداً في أشهر حكمه المعدودة.
هل ثمة حل؟ الحل الوحيد المتاح الآن هو لجوء الطرفين إلى القوة، والانتقال من حالة الحرب الأهلية السياسية واستعراض القوه إلى الحرب الأهلية المسلحة، التي تنتهي بهزيمة أحد الجانبين، وصناعة إجماع واستقرار جديدين بقوة السلاح. ولكن لتجنب مثل هذه النهاية، لابد من التحلي بالصبر، والثقة بأن الزمن كفيل بإعادة التوافق واللحمة الاجتماعية السياسية، أولاً، لأن الثورة أسست مناخاً من الحرية والديمقراطية، وثانياً، لأن زمن هذا الشرق يتحرك الآن لصالح شعوبه وازدهارها. نعم، بالفعل، حركة الثورة لم تصل إلى نهايتها بعد.
نقطة ومن اول السطر.

No comments: